صادرة عن دار الآداب ببيروت سنة 1997، وصلت اليوم الى طبعتها الـ15.) ما يقارب ال 90000 نسخة(
صدرت في طبعتها الإنكيزية في نيسان 2004 عن الجامعة الأمريكية بالقاهرة وتصدر في بداية سنة 2005 عن دارalbin michelالفرنسية وبموجب عقد مع هذه الدار التي أصبحت الوكيل الأدبي للكاتبة سيتم ترجمة هذا العمل إلى عدة لغات.
"أجمل حب هو الذي نعثر عليه أثناء بحثنا عن شيء آخر" ..
الفصل الأول
بدءًا
عكس الناس, كان يريد أن يختبر بها الإخلاص. أن يجرب معها متعة الوفاء عن جوع, أن يربي حبًا وسط ألغام الحواس.
هي لا تدري كيف اهتدت أنوثتها إليه.
هو الذي بنظرة, يخلع عنها عقلها, ويلبسها شفتيه. كم كان يلزمها من الإيمان, كي تقاوم نظرته!
كم كان يلزمه من الصمت, كي لا تشي به الحرائق!
هو الذي يعرف كيف يلامس أنثى. تماما, كما يعرف ملامسة الكلمات. بالاشتعال المستتر نفسه.
يحتضنها من الخلف, كما يحتضن جملة هاربة, بشيء من الكسل لكاذب.
شفتاه تعبرانها ببطء متعمّد, على مسافة مدروسة للإثارة.
تمرّان بمحاذاة شفتيها, دون أن تقبلاهما تمامًا. تنزلقان نحو عنقها, دون أن تلامساه حقّاً. ثم تعاودان صعودهما بالبطء المتعمّد نفسه. وكأنّه كان يقبّلها بأنفاسه, لا غير.
هذا لرجل الذي يرسم بشفتيه قدرها, ويكتبها ويمحوها من غير أن يقبلها, كيف لها أن تنسى.. كلّ ما لم يحدث بينه وبينها؟
في ساعة متأخرة من الشوق, يداهمها حبه.
هو, رجل الوقت ليلا, يأتي في ساعة متأخره من الذكرى. يباغتها بين نسيان واخر. يضرم الرغبة في ليلها.. ويرحل.
تمتطي إليه جنونها, وتدري: للرغبة صهيل داخلي لا يعترضه منطق. فتشهق, وخيول الشوق الوحشية تأخذها إليه.
هو رجل الوقت سهوًا. حبه حالة ضوئية. في عتمة الحواس يأتي. يدخل الكهرباء إلى دهاليز نفسها. يوقظ رغباتها المستترة. يشعل كل شيء في داخلها.. ويمضي.
فتجلس, في المقعد المواجه لغيابه, هناك.. حيث جلس يومًا مقابلاً لدهشتها. تستعيد به انبهارها الأوّل.
هو.. رجل الوقت عطرًا. ماذا تراها تفعل بكل تلك الصباحات دونه؟ وثمة هدنة مع الحب, خرقها حبه. ومقعد للذاكرة, ما زال شاغراً بعده. وأبواب مواربة للترقب. وامرأة.. ريثما يأتي, تحبّه كما لو أنه لن يأتي. كي يجيء.
لو يأتي.. هو رجل الوقت شوقًا. تخاف أن يشي به فرحها المباغت, بعدما لم يشِ غير لحبر بغيابه.
أن يأتي, لو يأتي.
كم يلزمها من الأكاذيب, كي تواصل الحياة وكأنه لم يأت! كم يلزمها من الصدق, كي تقنعه أنها انتظرته حقّا!
لو..
كعادته, بمحاذاة الحب يمر, فلن تسأله أيّ طريق سلك للذكرى, ومن دلّه على امرأة, لفرط ما انتظرته, لم تعد تنتظر.
لو..
بين مطار وطائرة, انجرف به الشوق إليها فلن تصدق أنه استدل على النسيان بالذاكرة. ولن تسأله عن أسباب هبوطه الاضطراريّ.
فهي تدري, كنساء البحّارة تدري, أن البحر سيسرقه منها وأنّه رجل الإقلاع.. حتمًا.
ريثما يأتي.
هو سيد الوقت ليلاُ. سيد المستحيلات. والهاتف العابر للقارّات. والحزن العابر للأمسيات. والانبهار الدائم بليل أوّل.
ريثما يعود ثانية حبيبها, ريثما تعود من جديد حبيبته, مازالت في كل ساعة متأخرة من الليل تتساءل.. ماذا تراه الآن يفعل؟
اليوم عاد..
هو الرجل الذي تنطبق عليه دوماً, مقولة أوسكار وايلد "خلق الإنسان الّلغة ليخفي بها مشاعره". مازال كلّما تحدث تكسوه اللغة, ويعريه الصمت بين الجمل.
وهي ما زالت انثى التداعيات. تخلع وترتدي الكلمات عن ضجر جسدي.. على عجل.
هيَذي عارية الصوت. تكسو كلمات اللقاء بالتردد بين سؤالين.
تحاول كعادتها, أن تخفي بالثرثرة بردها أمامه.
كادت تسأله: لماذا لبس ابتسامته معطفًا للصمت, اليوم بالذات, بعد شهرين من القطيعة؟
ثمّ فكرت في سؤال آخر: أينتهي الحب عندما نبدأ بالضحك من الأشياء التي بكينا بسببها يوماً؟
وقبل أن تسأل. بدا لها وكأنه غير مكترث إلا بصمتها أمام ضحكته. لحظتها فقط تنبهت إلى أنه لم يكن يرتدي معطفًا.
الحزن لا يحتاج إلى معطف مضاد للمطر. إنه هطولنا السري الدائم. وبرغم ذلك, ها هي اليوم تقاوم عادتها في الكلام. وتجرب معه الصمت, كما يجرب معها الآن الابتسام.
الابتسامة الغائبة, صمته. أو لغته الأخرى التي يبدو وكأنه يواصل بها الحديث إلى نفسه لا إلى الآخرين. ويسخر بها من أشياء يعرفها وحده.
الذي يخفيه عنها, كثيرا ما أثار حزنها. أما الذي يثير فضولها, فلماذا تخلّى عنها ذات يوم بين جملتين, ورحل؟
تذكر أنّه, يومها أطبق على الحزن ضحكة ومضى. دون أن تعرف تمامًا ماذا كان ينوي أن يقول؟
لا تريد أن تصدق أنه تخلى عنها, لأنها رفضت يوما أن ترافقه إلى مشاهدة ذلك الفيلم الذي كان يستعجل مشاهدته.
سألته أهو فيلم عاطفي.. أجاب "لا".
سألته أهو فيلم ضاحك.. أجاب"لا".
- ولماذا تريد أن نذهب لمشاهدته إذن؟
- لأنني أحب كل ما يثير فيّ البكاء.
ضحكت يومها. استنتجت أنّه رجل غريب الأطوار, لا يعرف كيف يتدبر أمر حب.
وهي لا تصدق أيضا ما قاله مرة, من أن مأساة الحب الكبير, أنه يموت دائما صغيرا. بسبب الأمر الذي نتوقعه الأقل.
أيعقل أن يكون حبها قد مات, فقط لأنها لم تشعر برغبة في أن تبكي معه, في عتمة صالة سينما؟
وإنما كانت تفضل لو دعاها إلى مكان آمن, بعيدا عن فضول الآخرين, يمكنهما فيه أن يعيشا اشتعالاتٍ عالية..
ما تعتقده, هو كونه أراد إذلالها, كي يضمن امتلاكها. وربما ظن أن على الرجل إذا أراد الاحتفاظ بامرأة, أن يوهمها أنّه في أية لحظة يمكنه أن يتخلى عنها.
أما هي, فكانت دائما تعتقد أن على المرأة أن تكون قادرة على التخلي عن أي شيء لتحتفظ بالرجل الذي تحبه.
وهكذا تخلت ذات يوم عن كل شيء وجاءته.
فلم تجده.
تذكر جلست وحيدة في تلك الزاوية اليسرى, من ذلك المقهى الذي كان يعرف الكثير عنهما, والذي أصبح منذ ذلك اليوم يحمل اسمه خطأً "الموعد".
أحيانا, يجب على الأماكن أن تغير أسماءها, كي تطابق ما أصبحنا عليه بعدها, ولا تستفزنا بالذاكرة المضادّة.
ألهذا, عندما طلبته البارحة هاتفيا, قال "انتظريني هناك" ثم أضاف مستدركا " اختاري لنا طاولة أخرى.. في غير الزاوية اليسرى" وواصل بعد شيء من الصمت "ما عاد اليسار مكانا لنا".
ألأن الحروب والخلافات السياسية طالت كل شيء, ووصلت حتى طاولات العشاق وأسّرتهم؟
أم لأنه لا يريد إذلال الذاكرة, أراد لها طاولة لا يتعرف الحب فيها إليهما, كي يكون بإمكانهما أن يضحكا, حيث لم يستطيعا يوماً البكاء؟
هاهما جالسان إلى الطاولة المقابلة للذاكرة.
هناك.. حيث ذات يوم, على جسد الكلمات أطفأ سيجارته الأخيرة. ثم عندما لم يبق في جعبته شيء, دخن كل أعقاب الأحلام وقال..
لا تذكر ماذا قال بالتحديد. قبل أن يحول قلبها مطفأة للسجائر, ويمضي.
منذ ذلك اليوم وهي تتصدى لشوقها الذي فخخه بالتحدي.
تلهي نفسها عن حبه, بكراهيته, في انتظار العثور على مبرر مشرّف للاتصال به, مناسبة ما, يمكن أن تقول له فيها "ألو.. كيف أنت؟" دون أن تكون قد انهزمت تماماً؟
في تمويه لإخفاقات عشقيَّة, عرضت عليه يوماً أن يصبحا صديقين.
أجابها ضاحكاً "لا أعرف مصادقة جسد أشتهيه". كادت تسعد, لولا أنه أضاف " أنت أشهى عندما ترحلين.. ثمة نساء يصبحن أجمل في الغياب".
ولم تفهم ما الذي كان يعنيه.
أما الذي كان يعنيها, فأن تستمع إليه.
هوذا, لم يتغير. ما زال يتوق إلى الكلام الذي لا يقال بغير العينين. وهي لا تملك إلاّ أن تصمت, كي ينصتا معاً إلى صخب الصمت بين عاشقين سابقين.
بين نظرتين, يتابع الحب تهرّبه العابث. وذاكرة العشق ترتبك.
مع عاشق آخر, كان بإمكانها أن تخلق الآن ضجة وضحكاً.
أن تختلق الآن للصمت صوتاً, يغطّي على صمتها. أن تخلق الآن إجابة لكل سؤال.
ولكن معه, هي تحتفظ بالأسئلة, أو تطرحها عليه دفعة واحدة, دون صوت, بل بذبذبات صمت وحده يعرفها.
وهو يقول دون أن يطفئ سيجارته تماماً, دون أن يشعل رماد الأحلام, دون أن يقول شيئاً بالتحديد, دون أن يقول شيئاُ إطلاقاً, كان يعترف لها بأنه تغيّر كثيراً منذ 1لك الحين.
هو رجل يشي به سكوته المفاجئ بين كلمتين.
ولذا يصبح الصمت معه حالة لغوية, وأحيانا حالة جوية, تتحكم فيها غيمة مفاجئة للذكرى.
حتمًا.. كان به شيء من الساديّة.
واللحظة أيضًا تراه مغريًا وموجعًا في آن واحد. ولم تسأله لماذا هو كذلك.
أيمكن للإغراء أن يكون طيباً؟ هو الذي يوقظ شراسة الأحلام فينا..
هي كانت تريد أن تسأله فقط: كيف هو؟
ولكن قبل أن تقول شيئاً, سرق منها السؤال نفسه الذي لن يطرح غيره بعد ذلك, وقال: كيف أنت؟
بين ابتسامتين لفّ حول عنقه السؤال ربطة عنق من الكذب الأنيق. وعاد إلى صمته.
أكان يخاف على الكلمات من البرد؟ أم يخاف عليها هي من الأسئلة؟
الأسئلة غالباً خدعة, أي كذبة مهذبة نستدرج بها الآخرين إلى كذبة أكبر.
هو نفسه قال هذا في يوم بعيد, قبل أن..
تذكر قوله "تحاشَيْ معي الأسئلة. كي لا تجبريني على الكذب. يبدأ الكذب حقاً عندما نكون مرغمين على الجواب. ما عدا هذا, فكل ما سأقوله لك من تلقاء نفسي, هو صادق".
يومها حفظت الدرس جيّداً. وحاولت أن تخلق لغة جديدة على قياسه, لغة دون علامات استفهام.
كانت تنتظر أن تأتي الأجوبة. وعندها فقط كانت تضعها أسفل أسئلتها, دون أن تنسى أن تتبعها بعلامات تعجب, وغالباً بعلامات إعجاب.
تدريجيّاً, وجدت في فلسفته في التحاور, من دون أسئلة ولا أجوبة, حكمة, وربما نعمةً ما.
وشكرت له إعفاءها من أكاذيب صغيرة أو كبيرة. كانت تقترفها دون تفكير. وبدأت تتمتع بلعبة المحادثة المفترضة التي لا سؤال فيها ولا جواب.
ها هوذا اليوم. هو نفسه أمام السؤال.
من الأرجح أنه يتساءل: أيطرحه أم يجيب عنه. وهو في الحالتين كاذب.
السؤال خدعة. ومباغتة للآخر في سرّه. وكالحرب إذن, تصبح فيها المفاجأة هي العنصر الحاسم. لذا, ربما قرّر الرّجل صاحب المعطف أن يسرق منها سؤالها, ويتخلّى عن طريقته الغريبة في التحاور.
تلك الطريقة التي أربكتها طويلاً, وجعلتها تختار كلماتها بحذر كلّ مرّة, سالكة كل المنعطفات اللغوية للهروب من صيغة السؤال, كما في تلك اللعبة الإذاعية التي ينبغي أن تجيب فيها عن الأسئلة, دون أن تستعمل كلمة "لا" أو كلمة "نعم".
تلك اللعبة تناسبها تماماً, هي المرأة التي تقف على حافة الشك. ويحلو لها أن تجيب "ربما" حتى عندما تعني "نعم", و"قد" عندما تقصد "لن".
كانت تحب الصيغ الضبابية. والجمل الواعدة ولو كذباً, تلك التي لا تنتهي بنقطة, وإنما بعدة نقاط انقطاع.
وكان هو رجل اللغة القاطعة.
كانت جمله تقتصر على كلمات قاطعة للشك, ترواح بين "طبعا" و"حتما" و"دوما" و"قطعا".
وبإحدى هذه الكلمات, بدأت قصّتهما منذ سنة. تماماً كما بإحداهنّ انتهت منذ شهرين.
تذكر أنّه يومها, قطع المكالمة فجأة, بإحدى هذه الكلمات المقصلة, وأنها بقيت للحظات معلّقة إلى خيط الهاتف, لا تفهم ماذا حدث.
اكتشفت بعد ذلك, أنه لم يكن بإمكانها أن تغير شيئا. فتلك الكلمات ما كانت لغته فحسب. بل كانت أيضا فلسفته في الحياة, حيث تحدث الأشياء بتسلسل قدريّ ثابت, كما في دورة الكائنات, وحيث نذهب "طوعاً" إلى قدرنا, لنكرر "حتماً" بذلك المقدار الهائل من الغباء أو من التذكي, ما كان لا بدّ "قطعاً" أن يحدث. لأنه "دوماً" ومنذ الأزل قد حدث, معتقدين "طبعاً" أنّنا نحن الذين نصنع أقدارنا!
كيف لنا أن نعرف, وسط تلك الثنائيات المضادّة في الحياة, التي تتجاذبنا بين الولادة والموت.. والفرح والحزن.. والانتصارات والهزائم.. والآمال والخيبات.. والحب والكراهية.. والوفاء والخيانات.. أننا لا نختار شيئا مما يصيبنا.
وأنّا في مدّنا وجزرنا, وطلوعنا وخسوفنا, محكومون بتسلسل دوريّ للقدر. تفصلنا عن دوراته وتقلّباته الكبرى, مسافة شعره.
كيف لنا أن ننجو من سطوة ذلك القانون الكونيّ المعقّد الذي تحكم تقلباته الكبيرة, تفاصيل جدّ صغيرة, تعادل أصغر ما في اللغة من كلمات, كتلك الكلمات الصغرى التي يتغير بها مجرى حياة!
يوم سمعت منه هذا الكلام, لم تحاول أن تتعّمق في فهمه. فقد كان ذلك في زمن جميل اسمه "بدءًا".
ولذا كم كان يلزمها من الوقت لتدرك أنهما أكملا دورة الحب, وأنه بسبب أمر صغير لم تدركه بعد, قد دخلا الفصل الأخير من قصة, وصلت "قطعاً" إلى نهايتها!
عندما ينطفئ العشق, نفقد دائمًا شيئاَ منّا. ونرفض أن يكون هذا قد حصل. ولذا فإنّ القطيعة في العشق فنّ, من الواضح أنّه كان يتعمّد تجنّب الاستعانة به, لتخفيف ألم الفقدان.
تذكر الآن ذلك اليوم الذي قالت له فيه "أريد لنا فراقاً جميلاً.."
ولكنه أجاب بسخرية مستترة "وهل ثمة فراق جميل؟".
أحيانا كان يبدو لها طاغية يلهو بمقصلة اللغة.
كان رجلاً مأخوذاً بالكلمات القاطعة, والمواقف الحاسمة.
وكانت هي امرأة تجلس على أرجوحة "ربما".
فكيف للّغة أن تسعهما معاً؟
هو لم يقل سوى "كيف أنت؟" وهي قبل اليوم لم تكن تتوقع أن يربكها الجواب عن سؤال كهذا.
وإذ بها تكتشف كم هي رهيبة الأسئلة البديهية في بساطتها, تلك التي نجيب عنها دون تفكير كل يوم, غرباء لا يعنيهم أمرنا في النهاية, ولا يعنينا أن يصدقوا جوابا لا يقل نفاقا عن سؤالهم.
ولكن مع آخرين, كم يلزمنا من الذكاء, لنخفي باللغة جرحنا؟
بعض الأسئلة استدراج لشماتة, وعلامة الاستفهام فيها, ضحكة إعجاز, حتّى عندما تأتي في صوت دافئ كان يوما صوت من أحببنا.
"كيف أنتِ؟"
صيغة كاذبة لسؤال آخر. وعلينا في هذه الحالات, أن لا نخطئ في إعرابها.
فالمبتدأ هنا, ليس الذي نتوقعه. إنه ضمير مستتر للتحدي, تقديره "كيف أنت من دوني أنا؟"
أما الخبر.. فكل مذاهب الحب تتفق عليه.
من الأسهل علينا تقبل موت من نحب. على تقبل فكرة فقدانه, واكتشاف أن بإمكانه مواصلة الحياة بكل تفاصيلها دوننا.
ذلك أن في الموت تساويا في الفقدان, نجد فيه عزاءنا.
كانت تفاضل بين جواب وآخر, عندما تنّبهت إلى أن جلستهما قد أصبحت فجأة معركة عاطفية صامتة. تدار بأسلحة لغوية منتقاة بعناية فائقة.
وإذ بالطاولة المربعة التي تفصلهما, تصبح رقعة شطرنج, اختار فيها كل واحد لونه ومكانه. واضعا أمامه جيشا.. وأحصنة وقلاعا من ألغام الصمت, استعدادا للمنازلة.
أجابته بنيّة المباغتة:
- الحمد لله..
الأديان نفسها, التي تحثنا على الصدق, تمنحنا تعابير فضفاضة بحيث يمكن أن نحملها أكثر من معنى. أوليست اللغة أداة ارتياب؟
أضافت بزهو من يكتسح المربع الأول:
- وأنت؟
ها هي تتقدم نحو مساحة شكه, وتجرده من حصانه الأول. فهو لم يتعود أن يراها تضع الإيمان برنسا لغويا على كتفيها.
ظلت عيناها تتابعانه.
هل سيخلع معطفه أخيراً, ويقول إنه مشتاق إليها. وأنه لم يحدث أن نسيها يوماً؟
أم تراه سيرفع قبة ذلك المعطف, ويجيبها بجواب يزيدها برداً؟
أي حجر شطرنج تراه سيلعب, هو الذ يبدو غارقا في تفكير مفاجئ, وكأنه يلعب قدره في كلمة؟
تذكرت وهي تتأمله, ما قاله كاسباروف, الرجل الذي هزم كل من جلس مقابلا له أمام طاولة شطرنج.
قال: "إن النقلات التي نصنعها في أذهاننا أثناء اللعب, ثم نصرف النظر عنها. تشكل جزءا من اللعبة, تماما كتلك التي ننجزها على الرقعة".
لذ تمنت لو أنها أدركت من صمته, بين أي جواب وجواب تراه يفاضل. فتلك الجمل التي يصرف القول عنها, تشكل جزءا من جوابه.
غير أنه أصلح من جلسته فقط. وأخذ الحجر الذي لم تتوقعه.
وقال دون أن يتوقف عن التدخين.
- أنا مطابق لك.
ثم أضاف بعد شيء من الصمت.
- تماماً..
هو لم يقل شيئا عدا أنه استعمل إحدى كلماته "القاطعة" بصيغة مختلفة هذه المرة. فانقطع بينهما التحدي.
وهي لم تفهم. فعلا.. لم تفهم كيف أن صمتا بين كلمتين أحدث بها هذا الأثر, ولا كيف استطاع أن يسرب إليها الرغبة دون جهد واضح, عدا جهد نظرة كسلى, تسلقت ثوبها الأسود, مشعلة حيث مرت فتيلة الشهوة.
بكلمة, كانت يده تعيد الذكرى إلى مكانها. وكأنه, بقفا كلمة, دفع بكل ما كان أمامهما أرضا. ونظف الطاولة من كل تلك الخلافات الصغيرة التي باعتهما.
هي تعرف أن الحب لا يتقن التفكير. والأخطر أنه لا يملك ذاكرة.
إنه لا يستفيد من حماقاته السابقة, ولا من تلك الخيبات الصغيرة التي صنعت يوما جرحه الكبير.
وبرغم ذلك, غفرت له كل شيء.
"قطعا" كانت سعيدة, بهزيمتها التي أصبح لها مذاق متأخر للنصر.
سعادته "حتما" بنصر سريع, في نزال مرتجل, خاضه دون أن يخلع "تماما" معطفه!
* * *
أحببت هذه القصة, التي كتبتها دون أن أعي تماما ما كتبت.
فأنا لم يحدث أن كتبت قصة قصيرة. ولست واثقة تماما من أن هذا النص تنطبق عليه تسمية كهذه.
كل ما كان يعنيني, أن أكتب شيئا. أي شيء أكسر به سنتين من الصمت.
لا أدري كيف ولدت هذه القصة. أدري كيف ولد صمتي. ولكن.. تلك قصة أخرى.
منذ يومين, فاجأت نفسي أعود إلى الكتابة. هكذا.. دون قرار مسبق, ودون أن يكون قد طرأ على حياتي أي حادث بالذات, يمكن أن يكون سبباً في إثارة مزاجي الحبريّ.
ربما لاشيء, عدا كوني اشتريت منذ أيام دفتراً, أغراني شكله بالكتابة.
حدث ذلك عندما ذهبت كي أشتري من القرطاسية, ظروفاً وطوابع بريدية. ورأيت ذلك الدفتر مع حزمة من الدفاتر. كان البائع يفردها أمامي وهو يقوم بترتيبها, استعدادا لاقتراب الموسم الدراسي.
كما يتوقف نظري أمام رجل, توقف عند ذلك الدفتر. وكأنني وقعت على شيء لم أكن انتظر العثور عليه في ذلك المحل البائس الذي لا أدخله إلا نادرا.
أليست الكتابة كالحب: هدية تجدها فيما لا تتوقع العثور عليها؟
ثمة بيوت لا تستطيع أن تكتب فيها سطرا واحدا, مهما سكنتها, ومهما كانت جميلة. وهذا أمر يبقى دون تفسير منطقي.
وثمة أقلام, تدري منذ اللحظة التي تشتريها فيها.. والكلمة الأولى التي تخطها بها, أنك لن تكتب بها شيئا يستحق الذكر. وأن مزاجها الكسول, ونفسها المتقطع, لن يوصلاك إلى الأنفاق السرية للكلمات.
وثمة دفاتر, تشتريها بحكم العادة فتبقى في جواريرك أشهرا دون أن توقظ فيك مرة تلك الشهوة الجارفة للكتابة, أو تتحرش بك كي تخط عليها ولو بضعة أسطر.
ولأنني أعرف هذا, كلما تقدمت بي الكتابة, ازدادت قوة عندي, تلك الحاسة التي تجعلني منذ اللحظة الأولى, أحكم على هذه الأشياء أوْ لَهَا بحدس قلّما يخطئ.
ولذا توقفت أمام ذلك الدفتر, مدفوعة بإحساس يتجاوزني. مأخوذة بهذا "الشيء" الذي لا يميزه عن بقية الأشياء في تلك المكتبة, سوى اقتناعي, أو وهمي بأنه سيعيدني على الكتابة.
منذ اللحظة الأولى, شعرت أن بيني وبين هذا الدفتر, ذبذبات ما, تعدني بكتابة نص جميل. على هذا الورق الأبيض الأملس, الذي تضمه مفاصل حديدية. ويغطيه غلاف أسود لامع, لم يكتب عليه أي شيء.
ركضت به إلى البيت. أخفيته, وكأنني أخفي تهمة ما. ولم أخرجه سوى البارحة, لأكتب فيه تلك القصة القصيرة, التي قد يكون عنوانها "صاحب المعطف".
كعادتي عندما أنتهي من الكتابة ليلاً, عدت إلى قراءة ذلك النص أول ما استيقظت.
كنت على عجل. أريد أن أعرف إن كانت تلك قصة جميلة حقاً, كما كانت تبدو لي لحظة كتابتها. وربما كنت أريد أن أتأكد فقط, من أنني كتبت فعلاً, شيئاً ذلك
الخميس 08 أكتوبر 2015, 17:06 من طرف Admin
» اجاثا كرستي
الجمعة 10 يناير 2014, 07:47 من طرف Admin
» عناوين الصحف الرياضيه الصادره صباح اليوم الجمعه
الجمعة 10 يناير 2014, 07:23 من طرف Admin
» ابرزعناوين الصحف السودانيه الصادره في الخرطوم صباح اليوم الخميس
الخميس 14 نوفمبر 2013, 07:30 من طرف Admin
» محمد الفيتوري
الخميس 14 نوفمبر 2013, 07:17 من طرف Admin
» عناوين الصحف الرياضيه الصادره اليوم
الخميس 14 نوفمبر 2013, 06:53 من طرف Admin
» قصه التلميذ والمعلمه
الإثنين 11 نوفمبر 2013, 17:56 من طرف Admin
» قصه الكلب الذكي والجزار
الإثنين 11 نوفمبر 2013, 17:51 من طرف Admin
» ابرز عناوين الصحف السودانيه الصادره في الخرطوم صباح اليوم الاحد
الأحد 10 نوفمبر 2013, 07:20 من طرف Admin